فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ} هذا الخطاب للمؤمنين المصدّقين بلا خلاف.
والاستجابة: الإجابة: و{يُحْيِيكُمْ} أصله يحييكُم، حذفت الضمة من الياء لثقلها.
ولا يجوز الإدغام.
قال أبو عبيدة: معنى {اسْتَجِيبُوا} أجيبوا؛ ولكن عُرْف الكلام أن يتعدى استجاب بلام، ويتعدى أجاب دون لام.
قال الله تعالى: {ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله} [الأحقاف: 31].
وقد يتعدى استجاب بغير لام؛ والشاهد له قول الشاعر:
وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى الندى ** فلم يَستجِبْه عند ذاك مُجيبُ

تقول: أجابه وأجاب عن سؤاله.
والمصدر الإجابة.
والاسم الجابة؛ بمنزلة الطاقة والطاعة.
تقول: أساء سَمْعًا فأساء جابة.
هكذا يتكلم بهذا الحرف.
والمجاوبة والتجاوب: التحاور.
وتقول: إنه لحَسن الجِيبة (بالكسر) أي الجواب.
{لِمَا يُحْيِيكُمْ} متعلق بقوله: {استجيبوا}.
المعنى: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم.
وقيل: اللام بمعنى إلى، أي إلى ما يحييكم، أي يُحِيي دينكم ويعلمكم.
وقيل: أي إلى ما يحيي به قلوبكم فتوحّدوه، وهذا إحياء مستعار؛ لأنه من موت الكفر والجهل.
وقال مجاهد والجمهور: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي؛ ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية، وقيل: المراد بقوله: {لِما يحيِيكم} الجهاد؛ فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدوّ إذا لم يُغز غَزا؛ وفي غزوِهِ الموت، والموت والجهاد الحياةُ الأبدية؛ قال الله عز وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] والصحيح العموم كما قال الجمهور.
الثانية: روى البخاريّ عن أبي سعيد بن المُعَلَّى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أُجِبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلِّي.
فقال: «ألم يقل الله عز وجل: {استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}» وذكر الحديث.
وقد تقدّم في الفاتحة.
وقال الشافعيّ رحمه الله: هذا دليل على أن الفعل الفرضَ أو القول الفرضَ إذا أتى به في الصلاة لا تبطل، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجابة وإن كان في الصلاة.
قلت: وفيه حجة لقول الأوزاعي: لو أن رجلًا يصلي فأبصر غلامًا يريد أن يسقط في بئر فصاح به وانصرف إليه وانتهره لم يكن بذلك بأس.
والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} قيل: إنه يقتضي النص منه على خلقه تعالى الكفر والإيمان فيحول بين المرء الكافر وبين الإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذا لم يُقدره عليه بل أقدره على ضدّه وهو الكفر.
وهكذا المؤمن يحول بينه وبين الكفر.
فَبانَ بهذا النص أنه تعالى خالق لجميع اكتساب العباد خيرها وشرها.
وهذا معنى قوله عليه السلام: «لا، ومُقَلِّبِ القلوب».
وكان فعل الله تعالى ذلك عدلًا فيمن أضله وخذله؛ إذ لم يمنعهم حقًا وجب عليه فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.
قال السُّدِّي: يحول بين المرء وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن إلا بإذنه، ولا يكفر أيضًا إلا بإذنه؛ أي بمشيئته.
والقلب موضع الفكر.
وقد تقدّم في البقرة بيانه.
وهو بيد الله، متى شاء حال بين العبد وبينه بمرض أو آفة كيلا يعقل.
أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل.
وقال مجاهد: المعنى يحول بين المرء وعقله حتى لا يدري ما يصنع.
وفي التنزيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي عقل.
وقيل: يحول بينه وبينه بالموت، فلا يمكنه استدراك ما فات.
وقيل: خاف المسلمون يوم بَدْر كثرة العدوّ فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدّلهم بعد الخوف أمْنًا، ويبدّل عدوّهم من الأمن خوفًا.
وقيل: المعنى يقلّب الأمور من حال إلى حال؛ وهذا جامع، واختيار الطبري أن يكون ذلك إخبارًا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء؛ حتى لا يدرك الإنسان شيئًا إلا بمشيئة الله عز وجل.
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} عطف.
قال الفرّاء: ولو استأنفت فكسرت، وأنه كان صوابًا. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول} يعني أجيبوهما بالطاعة والانقياد لأمرهما {إذا دعاكم} يعني الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإنما وجد الضمير في قوله تعالى: {إذا دعاكم} لأن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم استجابة لله تعالى وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد واستدل أكثر الفقهاء بهذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن كل من أمره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بفعل فقد دعاه إليه وهذه الآية تدل على أنه لابد من الإجابة في كل ما دعا الله ورسوله إليه (خ).
عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} ثم ذكر الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب وهو يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبيّ فالتفت أبيّ ولم يجبه وصلى أبي وخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم أفلم تجد فيما أوحى الله إلي: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى وذكر الحديث أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
قيل هذه الإجابة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا ليس لأحد أن يقطع صلاته لدعاء أحد آخر وقيل لو دعاه أحد لأمر مهم لا يحتمل التأخير فله أن يقطع صلاته.
وقوله تعالى: {لما يحييكم} يعني إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم.
قال السدي: هو الإيمان، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان.
وقال قتادة: هو القرآن، لأنه حياة القلوب وفيه النجاة والعصمة في الدارين.
وقال مجاهد: هو الحق وقال محمد بن إسحاق: هو الجهاد لأن الله أعزه به بعد الذل.
وقيل: هو الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} قال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله.
وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك ومجاهد.
وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر إلا بإذنه وقد دلت البراهين العقلية على هذا القول لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي وتلك الاعتقادات والدواعي لابد أن تتقدمها الإرادة وتلك الإرادة لابد لها من فاعل مختار وهو الله سبحانه وتعالى فثبت بذلك أن المتصرف في القلب كيف شاء هو الله تعالى (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك» عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقلنا يا رسول الله قد أمنّ بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال: نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.
أخرجه الترمذي وهذا الحديث من أحاديث الصفات، فيجب على المرء المسلم أن يمره على ما جاء مع الاعتقاد الحازم بتنزيه الله تعالى عن الجارحة والجسم.
وقيل في معنى الآية: إن الله يحول بين المرء وقلبه حتى لا يدري ما يصنع ولا يعقل شيئًا.
وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الخوف أمنًا والجبن جراءة.
وقوله تعالى: {وأنه إليه تحشرون} يعني في الآخرة فيجزي كل عامل بعمله فيثيب المحسن ويعاقب العاصي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيِيكم}
تقدم الكلام في استجاب في {فليستجيبوا لي} وأفرد الضمير في {دعاكم} كما أفرده في {ولا تولوا عنه} لأنّ ذكر أحدهما مع الآخر إنما هو على سبيل التوكيد والاستجابة هنا الامتثال والدعاء بمعنى التحريض والبعث على ما فيه حياتهم وظاهر {استجيبوا} الوجوب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لأبيّ حين دعاه وهو في الصلاة متلبث: «ما منعك عن الاستجابة ألم تخبر فيما أوحي إليّ استجيبوا الله وللرسول»؟ والظاهر تعلق {لما} بقوله: {دعاكم} ودعا يتعدى باللام.
قال:
دعوت لما نابني مسورًا

وقال آخر:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها

وقيل: اللام بمعنى إلى ويتعلّق باستجيبوا فلذلك قدّره بإلى حتى يتغاير مدلول اللام فيتعلق الحرفان بفعل واحد، قال مجاهد والجمهور: المعنى {استجيبوا} للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي ففيه الحياة الأبدية والنّعمة السرمديّة، وقيل: {لما يحييكم} هو مجاهدة الكفار لأنهم لو تركوها لغلبوهم وقتلوهم {ولكم في القصاص حياة}، وقيل: الشهادة لقوله: {بل أحياء عند ربهم يرزقون} قاله ابن إسحاق، وقيل: لما يحييكم من علوم الديانات والشرائع لأنّ العلم حياة كما أنّ الجهل موت.
قال الشاعر:
لا تعجبن الجهول حليته ** فذاك ميّت وثوبه كفن

وهذا نحو من قول الجمهور ومجاهد، وقال مجاهد أيضًا: {ما يحييكم} هو الحقّ، وقيل: هو إحياء أمورهم وطيب أحوالهم في الدنيا ورفعتهم، يقال: حييت حاله إذا ارتفعت، وقيل: ما يحصل لكم من الغنائم في الجهاد ويعيشون منها، وقيل: الجثة والذي يظهر هو القول الأوّل لأنه في سياق قوله ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم فالذي يحيا به من الجهل هو سماع ما ينفع مما أمر به ونهى عنه فيمتثل المأمور به ويجتنب المنهي عنه فيؤول إلى الحياتين الطيبتين الدنيوية والأخروية.
{واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} المعنى: أنه تعالى هو المتصرّف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاه إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء وزمامه وفي ذلك حضّ على المراقبة والخوف من الله تعالى والبدار إلى الاستجابة له، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك: {يحول بين} المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان، وقال مجاهد: {يحول بين} المرء وعقله فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده ففي التنزيل {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي عقل، وقال السدي: {يحول بين} كل واحد {وقلبه} فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه، وقال ابن الأنباري: بينه وبين ما يتمناه، وقال ابن قتيبة: بينه وبين هواه وهذان راجعان إلى القول الأول، وقال علي بن عيسى: هو أن يتوفاه ولأنّ الأجل يحول بينه وبين أمل قلبه وهذا حثّ على انتهاز الفرصة قبل الوفاة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومخالجة أدوائه وعلله وردّه سليمًا كما يريده الله فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله انتهى، وهو على طريقة المعتزلة وعلي بن عيسى هو الرماني وهو معتزلي.
وقال الزمخشري أيضًا.
وقيل معناه: أنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ وقيل: يبدل الجبن جراءة وهو تحريض على القتال بعد الأمر به بقوله: {استجيبوا} ويكشف حقيقته قوله صلى الله عليه وسلم: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء وتأويله بين أثرين من آثار ربوبيته».
وقيل: يحول بين المؤمن وبين المعاصي التي يهمّ بها قلبه بالعصمة، وقيل: معناه أنه يطلع على كل ما يخطر المرء بباله لا يخفى عليه شيء من ضمائره فكأنه بينه وبين قلبه واختار الطبري أن يكون المعنى أنّ الله أخبر أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينهما إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئًا إلا بمشيئته تعالى.
وقرأ ابن أبي إسحاق: {بين المرء} بكسر الميم اتباعًا لحركة الإعراب إذ في المرء لغتان: فتح الميم مطلقًا واتباعها حركة الإعراب، وقرأ الحسن والزهري: {بين المرّ} بتشديد الراء من غير همز ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء وحذف الهمزة ثم شدّدها كما تشدّد في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف وكثيرًا ما تفعل العرب ذلك تُجري الوصل مجرى الوقف، وهذا توجيه شذوذ {وأنه إليه تحشرون} الظاهر أن الضمير في {أنه} عائد إلى الله ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ولما أمرهم بأن يعلموا قدرة الله وحيلولته بين المرء ومقاصد قلبه أعلمهم بأنه تعالى إليه يحشرهم فيثيبهم على أعمالهم فكان في ذلك تذكار لما يؤول إليه أمرهم من البعث والجزاء بالثواب والعقاب. اهـ.